
صفحة بريد الجمعة الاسبوعية فى الاهرام تعرض رسائل كتبها اصحابها عن تجربة مروا بها او مشكلة يحتاجون فيها للعون او..او..المهم انى لا اعلم سر عدم انتظامى فى قراءتها..اجد نفسى اغيب عنها شهور ثم اعود فى احد الاسابيع لأقرأ احداها وهكذا كل مرة..اليوم اوقفتنى رسالة كتبتها صاحبتها..أثرت فى للغاية..واحببت ان تكون هنا..الاحداث قد نكون سمعنا عنها مرات متكررة..قد تكون الرسالة طويلة..لكنى وجدت فيها شيئ ما مختلف
اليكم هى
ورود لا تذبل..من بريد الجمعة
سيدي.. قال الكاتب الكبير أندريه مالرو في مذكراته: سألت القس الذي أمضي حياته يتلقي الاعترافات. ماذا تعلمت من اعترافات البشر فأجاب: تعلمت أن الناس أتعس كثيرا مما نظن.. وأنه ليس هناك اشخاص كبار.
نعم ياسيدي.. ليس هناك اشخاص كبار لأننا جميعا صغار أمام همومنا وأحزاننا, ولا يري أنفسهم كبارا سوي الحمقي والمغروروين.
تأملت كثيرا في رسالة السيدة التي تسرب إليها شعور بالفتور والجمود تجاه زوجها الذي لاتعيب عليه شيئا سوي انسحابه وانخراطه دون أن يدري إلي روتينية الحياة والطاحونة اليومية التي تطحننا جميعا رغما عنا وقدرت شكواها, لكن أود أن تتأمل هي وكل قرائك الاعزاء قصة أخري قصتي عسي أن تنظر إلي الأمور نظرةأخري. وان تري نصف الكوب المملوء.
تزوجت منذ أكثر من خمسة عشر عاما. بإنسان رائع أقل ما يوصف به أنه رجل كريم الخلق عزيز النفس, راقي المعاملة, وأعتبر نفسي محظوظة بفوزي بقلب هذا الرجل, الذي هو حبيبي وصديقي وزوجي وأحب الناس إلي قلبي.
وكانت بدايتنا بسيطة عادية تميل أكثر إلي أن تكون متواضعة من الناحية المادية, لكنها كانت راقية جدا من حيث المشاعر والتفاهم بيننا, وكان هذا كفيلا وحده بأن يذلل ويهون كل العقبات, أتذكر جيدا اننا يوما فاجأنا أهله بالزيارة علي موعد غداء, ولم يكن لدينا ما نقدمه, ولم يكن معنا سوي جنيهات قليلة لكن استطعت ببركة الله أن أعد عزومة فاخرة بتلك الجنيهات, فكنت أشعر دائما بأن الله معنا يسترنا ويهدينا وأصبح بيتنا الصغير هذا قبلة لكل من أهله وأهلي يلتمس فيه الجميع الود والراحة والهدوء والحل لجميع المشكلات التي كانت ولاتزال تواجه العائلتين. فأنا الإبنة الكبري لعائلتي, وهو كذلك الإبن الأكبر لعائلته. واستقبلت طفلتي الأولي وشعرت بعدها ان نعمة كبيرة من الله حلت علي وتفرغت تماما لتربيتها والاهتمام بزوجي راضية قانعة, وضحيت بطموحي الشخصي في ان أكون يوما ما صحفية أو كاتبة يشار إليها بالبنان, وجاءتني فرص كبيرة للعمل, وكنت لا أتصور أن أبتعد عن ابنتي أو اعهد بذلك إلي حضانة أو خادمة, ففضلت التفرغ لها تماما وسط ترحاب كبير من زوجي,
ولا استطيع أن اصف لك كم المشكلات التي واجهتها انا وهو في البداية من مشكلات عائلية إلي مادية, لكن كنت أعلم دائما ان التوكل علي الله مع السعي, والأخذ بالأسباب هو المعين الوحيد, فشجعت زوجي علي اتمام دراسته العليا. برغم طبيعة عمله المرهقة وانشغاله الدائم بأمورنا وأمور عائلته الكبري وعائلتي ايضا, وبعد سنوات كبرت ابنتي الجميلة, وحصل زوجي علي أكبر الشهادات العلمية بتفوق نادر في تخصصه, وقد أهداني نجاحه هذا, وقال لي إني صاحبة الفضل الأولي فيه ولا أخفي عليك أن مظاهر الحب قد تغيرت من فترة الخطوبة إلي السنوات الأولي من الزواج إلي الآن. فليس معني تغير مظاهر الحب انه اختفي أو جفت جذوته, فهذا مفهوم خاطئ جدا لدي كثير من النساء, فالحب في نظري يولد كالطفل الصغير البريء يولد علي سجيته وعفويته, فتكون البداية دائما قوية الافصاح, واضحة تماما كالطفل الصغير حين يضحك بعفوية, ويبكي بعفوية حين يسعد أو يغضب فيلفت الانظار إليه في الحالتين بالهدايا والورود والمكالمات المتلهفة, والرسائل الحارة,
ثم ما يلبث ان يكبر الطفل أو الحب شيئا فشيئا مع الأيام وزيادة المسئولية علي كاهله فيبدأ يعبر عن نفسه بمظاهر أخري أكثر رشدا من ذي قبل, وان كانت لا تخلو من رقة وعذوبة فأنا اعتبر تشطيب المطبخ من قبل زوجي في أيام تعبي أو ارهاقي هي كلمة أحبك لكن دون البوح, واعتبر لهفته علي حين يضايقني أمر ما أو مشكلة ولايهدأ له بال إلا بعد أن يأتيني كعادته بحل عبقري من حلوله, خاصة انني تحملت عبء رعاية اخواتي البنات بعد وفاة والدتي ـ رحمها الله ـ وكان ذلك بعد زواجنا مباشرة ـ فكان نعم المعين لي في مشكلاتي هذه حتي إنه وافق أن تأتي أختي الصغري للعيش معنا بصفة دائمة للالتحاق بالجامعة هنا بالقاهرة من مدينتنا الإقليمية, حتي تخرجت وتزوجت برعايتنا هي وكل اخواتي اللاتي كنت معهن في كل مشكلاتهن الشخصية والمادية بصفتي أنا الكبيرة, والكل يلجأ إلي في ساعة الضيق والشدة, وسارت بنا الحياة هكذا, وكل يوم أكتشف في زوجي خصلة حميدة جديدة, وأحمد الله علي هذا برغم اختفاء الورود.. وإذا جاءت مناسبة عيد ميلادي فهو يفعل كما يفعل زوج السيدة صاحبة الرسالة.. يكتب لي كلمات رقيقة داخل كارت وبداخله المبلغ الذي سوف انتقي به هديتي لأنه لا يعلم حقيقة ما أحتاج إليه فعلا..أما انا بصفتي مديرة البيت وأعلم كل صغيرة وكبيرة فيه وبحكم علمي بكل ما يحتاجه هو والطفلة أبحث عما ينقصه وأشتريه, سواء أكان ذلك في عيد ميلاده أو بدون مناسبة, ولم أشعر يوما أن هذا انتقاص لمقدار الحب بيننا بل حبنا يكبر ويكبر بمرور الأيام ودوام العشرة الجميلة بيننا.
وجاءت طفلتي الثانية وملأت حياتي بهجة ومرحا واصبحت أكثر لحظات عمري سعادة هي الساعات التي أقضيها مع طفلتي الجميلتين وزوجي الغالي وأنا في المطبخ أعد لهما الطعام وهم حولي كل يأتي بما عنده من أحداث اليوم, واصبح بيتنا المتواضع الصغير هو محط الاحتفال بكل المناسبات, وبما أني طباخة ماهرة, فدائما ماكان يلتئم شمل العائلتين عندنا, ونقضي الأمسيات في المرح والضحك وتحسنت أحوالنا المادية بعد حصول زوجي علي عمل اضافي خاص.. ودائما ما كنت أدعو الله ان يرزقنا ويوسع علينا.

قضيت أياما وليالي وشهورا طويلة ارتعش في فراشي وفي حضن زوجي في عز الحر خائفة مرعوبة لقد كنت انا ياسيدي الشاهدة القريبة من تجربة أمي المريرة مع هذا المرض الذي استمر لست سنوات أو أكثر, حتي أسلمت الروح بين يدي, وتغيرت حياتي ونظرتي للأشياء والناس.. ودخلت دائرة اكتئاب وبكيت شهورا طويلة, وقل نومي وفقدت تركيزي, وأصبحت في وسط التجمعات والناس أري نفسي وحيدة وحدة قاتلة, وأنا انظر وأستمع إلي مشكلاتهم الصغيرة التي هي في أعينهم كبيرة وليس لها حل, واكثر ما أفكر فيه انني سوف اعيش هذه التجربة المريرة وأذيق ويلاتها لزوجي الحبيب وإبنتي اللتين مازالتا في طور المراهقة الأولي مازالتا طفلتين يحتاجانني ويحتاجان لعطائي وجهدي.. وهنا نظرت إلي حياتي وما مررت به, وأعدت حساباتي ووجدت نقطة نور تشع وسط هذه السحابات القاتمة, لقد عشت حياة مليئة بالحب, سواء مع أهلي أو أخواتي أو زوجي وبنتي, حتي صديقاتي وجيراني وأهل زوجي لقد كسبت حب واحترام الجميع, وكسبت قلب زوجي واحترامه لسنوات عشرتي به, وأديت واجبي نحوهم جميعا لم أقصر في حق احد يوما, ولم أقم بإيذاء أحد يوما حتي بكلمة, ودائما ما كنت أحاسب نفسي علي كل أفعالي وتصرفاتي, ولا أذكر انني اشتكيت من زوجي لأحد, ولا هو اشتكي مني لأحد ودائما ماكانت خلافاتنا بيننا لايعرف عنها أحد شيئا تبدأ وتنتهي بيني وبينه فقط, حتي ان اهلنا يتندرون علينا أننا لا نتشاجر ابدا!
والآن أري ذلك البنيان الذي بنيته بكل الحب والتفاني والاخلاص ينهار امام عيني, وتتلاحق الاسئلة امامي ماذا لو مرضت الآن؟ ومن أين سأنفق علي علاجي ونحن امكاناتنا لا تسمح وهو علاج مكلف وأكثر ما أفكر فيه هو تأثير هذه التجربة علي نفسية بنتي بعد ذلك, ولا أريد لهما أن يعانيا مثلما عانيت أثناء مرض أمي وبعد وفاتها ثم زواج أبي من اخري وتوالت مشكلاتي ومشكلات أخواتي.
وأقول هنا لكل امرأة تفتقد في زوجها بعض الأشياء اللافتة كالورود والكلمات الطنانة ان هناك كثيرا من النساء تأتيهن الورود والهدايا الثمينة ولكنهن يعلمن من داخلهن انهاورود بلا رائحة ومجاملات قد تفتقد إلي الصدق والعمق العاطفي, العبرة في ذلك بالصدق وقد قال الشاعر الهندي طاغور ابحث في الناس عن مزاياهم وابحث في نفسك عن عيوبك تكن احكم الناس, وانظر دائما إلي الجانب المبهج من الحياة وتعامي عن الجانب المؤلم منها تكن أسعد الناس.
سيدي.. مرت فترة طويلة وانا بخير والحمد لله وتحاليلي وفحوصاتي الطبية تنبئ بالخير الي الآن, وليس لي أمل الا في رحمة الله التي وسعت كل شئ ان يدرأ عني هذا الشبح أو أن يؤخره الي آخر العمر حتي أكون اشتممت ورودي الصغيرة وحصدت مازرعت علي مدي سنوات واطمأننت عليهما, وأكون قد اديت رسالتي نحو زوجي وبنتي واهلي الي آخررمق في.
فأرجو ان تدعو لي بذلك انت وقراؤك الأعزاء. واخيرا اقول ان الحياة علمتنا أن أسرع طريق للأخذ هو العطاء المتفاني, فانتبهوا للسعادة التي بين أيديكم وانتم لاتشعرون بها ولاتقدرونها حق التقدير ولاتشكروا لها حق الشكر, وابحثوا عن الورود التي لاتذبل ابدا بفعل الزمن, الورود التي يظل أريجها يتهاوي في عبق الايام وفي نفوس من نحب.. حتي لو فارقناهم الي الابد..
